المجال العسكري: بوابة القوى الدولية لتعزيز نفوذها بالساحل الإفريقي
محفوظ السالك / صحفي متخصص في الشؤون الإفريقية.
السلطة الموازية- كتب محفوظ ولد السالك الصحفي المتخصص في الشؤون الإفريقية لمركز الجزيرة للدراسات مقالا جديدا عنونه بالمجال العسكري: بوابة القوى الدولية لتعزيز نفوذها بالساحل الإفريقي، وبما أننا في السلطة الموازية مهتمون بالعمل الصحفي الصرف وفق الضوابط المهنية وأخلاقيات المهنة فإننا نقله عن المركز وقد جاء المقال على النحوي التالي:
وتوضح هذه المقالة، من بين ما توضح، أن حماية المصالح وتعزيز التموقع الجيوستراتيجي هو ما يفسر تنافس القوى الدولية على الدخول عبر المجال العسكري لمنطقة الساحل، وهناك إرهاصات بشأن توسع خارطة التنافس والانتشار نحو الدول المطلة على خليج غينيا الذي يعاني من انتشار القرصنة.
مقدمة
شكَّل سقوط مدن بالشمال المالي على أيدي مجموعات مسلحة، عام 2012، نقطة تحول فيما يخص تنامي التنافس على منطقة الساحل وغرب إفريقيا عبر البوابة العسكرية.
فقد أدى الانهيار السريع للجيش المالي أمام زحف المقاتلين الأزواديين ومقاتلي حركة “أنصار الدين” بقيادة إياد أغ غالي، ودخول العاصمة (باماكو) منطقة الخطر؛ إذ بات المقاتلون على بعد مئات الكيلومترات منها، إلى مطالبة الرئيس الانتقالي الأسبق، ديونكوندا تراوري، في يناير/كانون الثاني 2013، فرنسا بالتدخل السريع من أجل نجدة بلاده.
ولم تتأخر الاستجابة الفرنسية لتلك الدعوة، ففي غضون أيام قليلة نشرت فرنسا قوات جوية وبرية في مالي، وقد نجحت هذه القوات في استرجاع المدن التي كانت تحت سيطرة المجموعات المسلحة، ولكنها أخفقت في القضاء على هذه المجموعات، وكان من نتائج ذلك تمدد نشاطها باتجاه دول أخرى مجاورة كبوركينا فاسو والنيجر.
وقد شكَّل هذا التمدد مسوغًا لتمدد وانتشار القوات الفرنسية بالمنطقة تحت لافتة ملاحقة الجماعات المسلحة، وهو ما تم من خلال عملية “برخان” التي تم إطلاقها عام 2014، وشملت كلًّا من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.
وفي سنة 2020، أعلنت فرنسا، بالتعاون مع عدة حلفاء أوروبيين وأفارقة، إطلاق عملية “تاكوبا”، من أجل القتال إلى جانب جيشي مالي والنيجر، ضد الجماعات المسلحة التي باتت تشكل تهديدًا متعاظمًا لبلدان منطقة الساحل وغرب إفريقيا.
وتحت ذات ذريعة التصدي للجماعات المسلحة، نشرت الولايات المتحدة الأميركية، وألمانيا، وإيطاليا قوات عسكرية في النيجر، كما نشرت واشنطن قوة خاصة في تشاد، التي تواجه خطرًا مسلحًا ثلاثي الطابع، فمن جهة تهددها الجماعات المسلحة التابعة لتنظيم القاعدة، على حدودها مع النيجر، ومن جهة أخرى تواجه خطر جماعة بوكو حرام الناشطة على حدودها مع نيجيريا. كما أن حدود البلاد مع ليبيا، مهددة هي الأخرى من طرف مجموعات التمرد التشادية المسلحة.
وبطبيعة الحال، فإنه لا يمكن تجاهل أن المصالح الاقتصادية، والأبعاد الإستراتيجية، هي المحرك الأساسي للدول الأجنبية من أجل تعزيز نفوذها في بلدان المنطقة، تحت ذريعة الحماية والتكوين.
وهي أهداف كان الفشل في تحقيقها، السبب الأساسي المعلن لسلسلة الانقلابات التي عرفتها بعض دول الساحل خلال السنوات الأخيرة، وعلى إثرها تم طرد القوات الفرنسية من مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، واستبدال روسيا بها، التي قدمت أسلحة حربية لهذه البلدان، ونشرت في بعضها قوات عسكرية.
وأمام هذا المتغير الجديد، باتت فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، تناوران من أجل إعادة نشر قواتهما في دول أخرى بالمنطقة، فيما عززت تركيا دخولها حلبة التنافس عبر بيع السلاح.
فرنسا في الساحل الإفريقي: من النفوذ إلى التكيف
أتاح استعمار فرنسا للعديد من الدول الإفريقية بشمال وغرب، وشرق وجنوب القارة، الاحتفاظ بنفوذ واسع بمختلف هذه البلدان بعد الحصول على استقلالها، وهو ما مكَّنها من الاستفادة على مدى عقود من مختلف خيرات القارة الإفريقية، تحت بنود مختلفة، ظاهرها الشراكة والتعاون، وباطنها الحفاظ على مصالح باريس الاقتصادية والتجارية، والإستراتيجية.
وقد نُسب إلى الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، القول: إنه “من دون إفريقيا، ستنزلق فرنسا إلى مرتبة دول العالم الثالث”، ومن قبله قال الرئيس الاشتراكي، فرانسوا ميتران: إن فرنسا “من دون إفريقيا، لن تملك أي تاريخ في القرن الحادي والعشرين”(1).
وتعكس المقولتان أعلاه، مدى اعتماد فرنسا الوثيق على إفريقيا، خصوصًا من الناحية الاقتصادية؛ إذ تهيمن عبر شركاتها المختلفة المنتشرة في الساحل وغرب إفريقيا، على الكثير من الموارد، وكمؤشر على ذلك، فإن بعض البلدان الإفريقية مثلًا، ظلت تزود فرنسا بنسبة “25% من احتياجات مفاعلاتها النووية”، كما أن نسبة تقدر بنحو %80 من مستخرجات الموارد والثروات المعدنية بإفريقيا “يُصدَّر بإشراف فرنسي نحو القارات الأخرى”(2).
ومن أجل أن تسوغ فرنسا حضورها الطاغي بالقارة الإفريقية خلال حقبة ما بعد الاستقلال، ركزت على زرع فكرة أنها الحامي الحقيقي لهذه البلدان وللأنظمة الحاكمة، ولذلك عملت على نشر قوات عسكرية بعدد من هذه الدول لمواجهة أي مخاطر محتملة.
وقد نفذت فرنسا عشرات العمليات العسكرية على مدى نحو ستة عقود، بعضها خاضته بشكل فردي، وبعضها الآخر خاضته مع قوات أخرى إما إفريقية، أو غربية، أو أممية(3).
وقد تدخلت فرنسا عسكريًّا منذ بواكير حقبة الاستقلال في بعض الدول الإفريقية، كما هي الحال في الغابون سنة 1964، وفي تشاد سنوات 1968-1972، ثم توالت تدخلاتها في إفريقيا الوسطى، عام 1979، وجزر القمر، سنة 1989، ورواندا، عام 1990(4).
لقد ركزت التدخلات العسكرية الفرنسية بإفريقيا في مراحلها الأولى، على حماية الأنظمة الحاكمة حفاظًا على مصالحها، فأحبطت عدة انقلابات، وأفشلت عددًا من حركات التمرد. وفي مرحلة لاحقة، انضاف إلى مسوغات التدخل العسكري الفرنسي بالقارة الإفريقية، التصدي للجماعات المسلحة، كما حصل في مالي عام 2012، من خلال عملية “سرفال”، التي استلمت منها المشعل عملية “برخان” وتوسع نطاقها ليشمل عدة بلدان مجاورة باتت مهددة بالنشاط المسلح(5).
غير أن فشل القوات الفرنسية في وضع حدٍّ لخطر الجماعات المسلحة بالساحل على مدى أزيد من عقد، انقلب إلى نتائج عكسية، فقد باتت الشعوب تخرج في المظاهرات مطالبة بسحب قواتها.
وقد استغلت جيوش عدة بلدان في المنطقة هذا الحنق الشعبي المتصاعد، ونفذت انقلابات عسكرية أطاحت بحكام مدنيين متحالفين مع فرنسا، ورفع الانقلابيون شعار السيادة، وعلى أساس ذلك طُردت القوات الفرنسية من مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو.
وقد شكَّل هذا العامل المستجد بداية فعلية لتراجع النفوذ الفرنسي بمنطقة حضوره التقليدية، على مختلف المستويات الأمنية، والاقتصادية، والدبلوماسية.
وأمام هذا المعطى، باتت فرنسا تبحث فقط عن آلية للتكيف تسمح لها بالبقاء في المنطقة، وتحصين قواعدها العسكرية الموجودة في دول أخرى بالساحل وغرب إفريقيا، حتى لا تتعرض للطرد.
وقد تحدثت عدة وسائل إعلام فرنسية عن أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يدرس تقليص عدد قوات البلاد في السنغال والغابون من 350 جنديًّا بكل منهما إلى 100 عسكري، وكذلك الأمر بالنسبة لساحل العاج حيث يوجد نحو 600 جندي، أما في تشاد فإن باريس تسعى للإبقاء على 300 جندي من أصل حوالي 1000 عسكري(6).
الولايات المتحدة: الانسحاب العسير والبحث عن وجهات جديدة
لقد أحرجت سلسلة الانقلابات العسكرية التي شهدتها منطقة الساحل والغرب الإفريقي منذ 2020، الإدارة الأميركية، بل وأربكت حساباتها؛ لأنها وجدت نفسها أمام خيارين صعبين، فإما أن تحافظ على بقائها العسكري، وحماية مصالحها الإستراتيجية، وذلك بمجاراة الحكام الجدد العسكريين، وإما أن تعارض الانقلابات، انسجامًا مع إستراتيجيتها بالقارة والتي يشكل احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان مرتكزًا رئيسيًّا فيها.
وفي غياب خيار ثالث، لا يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية وُفِّقت في مقاربتها إزاء التحولات الجديدة بالمنطقة عبر القوة الخشنة، وهو ما تجلى في طرد قواتها من النيجر، والتهديد بطردها من دولة تشاد.
وقد شكَّل إعلان المجلس العسكري الحاكم بنيامي، في مارس/آذار 2024، إلغاء اتفاق التعاون العسكري القائم بين نيامي وواشنطن منذ العام 2012، البداية الفعلية لوصول العلاقات الأميركية النيجرية إلى طريق مسدود.
وقد عدَّد المجلس العسكري الذي يتولى السلطة إثر انقلاب أطاح بالرئيس المدني، محمد بازوم، في نهاية يوليو/تموز 2023، جملة من الأسباب وراء قراره إلغاء اتفاق التعاون العسكري مع واشنطن، ودعوته القوات الأميركية لمغادرة البلاد، ومن ضمن تلك الأسباب اعتباره الاتفاق “غير قانوني” و”ينتهك كل القواعد الدستورية والديمقراطية”(7).
وأمام هذا الموقف الرسمي، المسنود بدعم شعبي؛ إذ خرجت عدة مظاهرات تطالب بمغادرة القوات الأميركية على غرار ما حصل مع القوات الفرنسية -وإن بدرجة أقل- وافقت واشنطن على الانسحاب، وحددت منتصف سبتمبر/أيلول 2024 لمغادرة آخر جنودها البلاد.
وقد اكتمل الانسحاب الأميركي أولًا من القاعدة الجوية 101 بالعاصمة، نيامي، وتحدثت وزارتا الدفاع الأميركية والنيجرية عن أن الأمر “تم دون تعقيدات”، وانسحب في المجموع “766 عسكريًّا”، كما تم سحب “ست طائرات وهي مروحيتان من طراز رابتور، وأربع مسيرات، إضافة إلى 1593 طنًّا من المعدات”(8)؛ وذلك منذ مايو/أيار 2024.
وينتظر في الخطوة اللاحقة البدء التدريجي في الانسحاب من القاعدة الجوية “201” الموجودة في أغاديز، والتي تعد “إستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية”، و”تتوفر على معدات جوية مهمة”(9).
وفي مسار مشابه لخروجها من النيجر -لكن بدرجة أقل حدة ووقعًا- تلقت الولايات المتحدة دعوة من تشاد إلى سحب قواتها منها، وذلك في رسالة صادرة عن رئيس أركان القوات الجوية التشادية، مطلع أبريل/نيسان 2024، وعزا السبب إلى عدم وجود اتفاق يسمح ببقائها.
ونقلت وسائل إعلام عن متحدث باسم البنتاغون “وزارة الدفاع الأميركية” مغادرة نحو “60 من أفراد الخدمة الأميركية من تشاد إلى ألمانيا؛ حيث يواصلون عملهم”(10)، على أن تكتمل عملية الانسحاب لاحقًا.
ومن الواضح أن الانحسار الذي تواجهه القوات الأميركية في هذين البلدين، ومن قبلها القوات الفرنسية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، يأتي في ظل تزايد الحضور الروسي بهذه الدول، ورغم أن تشاد لم تطرد القوات الفرنسية، ولم تنشر بعد فيها روسيا قوات عسكرية، إلا أن خطوات التقارب بين نجامينا وموسكو تتسارع على نحو حثيث، فبعد زيارة محمد إدريس ديبي إلى موسكو، مطلع يناير/كانون الثاني في 2024، زار وزير الخارجية الروسي تشاد في يونيو/حزيران من نفس السنة، واعتبرت زيارته الأولى من نوعها منذ عقود.
ولكن الولايات المتحدة الأميركية، لم تستسلم لهذا الاختراق الروسي المتزايد لمناطق نفوذها، فقد بدأت البحث عن وجهات جديدة لقواتها العسكرية، ونقلت وسائل إعلام فرنسية عن مصادر وصفتها بالقريبة من الملف، أن “أبيدجان أعطت الضوء الأخضر لإنشاء قاعدة أميركية في أوديينيه بالشمال الغربي؛ حيث الجماعات الجهادية في الساحل تهدد دول خليج غينيا”(11)، وهو ما يعني إعادة تموضع أميركي في المنطقة.
كما كانت لمسؤولين عسكريين أميركيين رفيعين مباحثات مكثفة مع عدد من وزراء الدفاع الأفارقة خلال مؤتمر “قادة الدفاع في إفريقيا” الذي احتضنته مؤخرًا بوتسوانا، وهي المرة الأولى التي ينظم فيها هذا الحدث السنوي منذ إطلاقه من طرف الولايات المتحدة الأميركية، عام 2017، داخل القارة الإفريقية، وهو ما يؤشر على البحث الأميركي المتواصل عن إيجاد موطئ قدم جديد للقوات الأميركية بالقارة.
“فاغنر” و”الفيلق الإفريقي”: المدخل الروسي إلى إفريقيا
بعد تراجع حضورها في القارة الإفريقية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، عام 1991، عادت روسيا بقوة خلال السنوات الأخيرة إلى إفريقيا عبر بوابات مختلفة.
وقد عززت الانقلابات العسكرية الأخيرة بمنطقة الساحل، وتعالي الأصوات شعبيًّا ورسميًّا ضد الحضور الفرنسي، أهمية البوابة الأمنية والعسكرية مدخلًا رئيسيًّا لروسيا في المنطقة المحسوبة تقليديًّا منطقة نفوذ فرنسية.
وزاد من التقارب الروسي ودول مالي والنيجر وبوركينا فاسو، كون بعض العسكريين الذين قادوا الانقلابات سبق وأن تلقوا تكوينات في روسيا، واحتفظوا بعلاقات جيدة مع بعض الأوساط هناك.
ولا تمتلك روسيا حتى الآن -رسميًّا على الأقل- أي قاعدة عسكرية في إفريقيا، ولكنها وسَّعت منذ عام 2017 دائرة الاهتمام بالبعد العسكري في علاقاتها مع القارة الإفريقية، من خلال توقيع اتفاقيات تعاون في هذا المجال، تشمل تصدير السلاح، وتكوين الجيوش.
وشكَّلت مجموعة “فاغنر” إحدى آليات ووسائل بحث موسكو عن النفوذ، فظاهر هذه المجموعة أنها جهاز أمني يمكن لأي دولة إفريقية كانت أو غير إفريقية التعاقد معه، وباطنها أنها أداة لجس النبض “لاستكشاف الوضع الداخلي، وصنع نفوذ ووجود مستقر”، يؤهل روسيا فيما بعد لبحث إمكانية الحصول على قاعدة عسكرية تخدم أهدافها(12).
مجموعة فاغنر وخارطة الحضور بإفريقيا
ظهرت مجموعة “فاغنر” سنة 2014، تزامنا مع الهجوم الروسي على الشرق الأوكراني، وبدأت أنشطتها الخارجية عام 2015 في سوريا، أما انتشارها بالقارة الإفريقية فيعود إلى العام 2017 بتوجيه من قائدها الراحل، يفغيني بريغوجين، رجل الأعمال الروسي “المعروف باسم طاه بوتين”(13).
وتتضارب الروايات حول عدد الدول الإفريقية التي توجد بها “فاغنر”، لكن المؤكد أنها توجد على الأقل في أربع دول بالقارة، وهي ليبيا وخصوصًا مدينتي سرت بالشرق، والجفرة في الجنوب الشرقي، كما توجد بإفريقيا الوسطى منذ العام 2018، والسودان منذ سنة 2017(14)، وهناك أيضًا قوات من فاغنر في مالي يقدر عددها بالمئات، وتم نشرها بعد اكتمال انسحاب القوات الفرنسية من البلاد(15).
وتشير بعض المصادر إلى حضور مجموعة “فاغنر” كذلك في دول إفريقية أخرى مختلفة بينها بوتسوانا، وبوروندي، وجزر القمر، وغينيا، والكونغو، وزيمبابوي(16).
لكن إعلان مقتل يفغيني بريغوجين إثر تحطم طائرة كان على متنها، في 23 أغسطس/آب 2023، أثار عديد التساؤلات بشأن مستقبل “فاغنر”، وقد برزت إزاء ذلك عدة سيناريوهات، تراوحت بين “حل المجموعة، أو تأميمها من قبل روسيا، أو تعيين قائد جديد لها”(17).
الفيلق الإفريقي: مسعى توسعي روسي جديد
مع مطلع العام 2024، تم الكشف عن “فيلق إفريقيا” كتشكيل عسكري روسي جديد بالقارة، يهم بالأساس خمسة بلدان هي: ليبيا، وبوركينا فاسو، ومالي، والنيجر، وإفريقيا الوسطى، ويشرف على هذا الفيلق الجنرال يونس بك إيفكوروف، نائب وزير الدفاع الروسي(18).
ولعل أبرز ما يميز “الفيلق الإفريقي” هو طابعه الرسمي الروسي، فمن خلاله تريد روسيا تأكيد ابتعادها -ظاهريًّا- عن الميليشيات المسلحة، التي يطلقها خصومها الغربيون على “فاغنر”، ويتحدثون عن ارتباط هذه المجموعة بانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في مختلف البلدان التي توجد فيها.
ورغم أن روسيا ظلت خلال الفترة السابقة تتحدث عن أن “فاغنر” شركة خاصة يمكن لأي طرف التعاقد معها إذا أراد، فإنها من خلال هذا الفيلق، تسعى لأن يأخذ حضورها العسكري بإفريقيا طابعًا رسميًّا، شبيهًا بالحضور الفرنسي والأميركي، وذلك من خلال إبرام اتفاقيات مع الدول التي سيتم فيها نشر هذه القوات.
ولا يستبعد أن يتوسع نطاق “الفيلق الإفريقي” لاحقًا ليشمل بلدانًا أخرى في القارة، خصوصًا في ظل الاهتمام الروسي المتزايد ببعض دول منطقة الساحل وغرب إفريقيا بشكل عام.
تركيا ودبلوماسية المسيرات
تزايد اهتمام تركيا بدول الساحل الإفريقي التي حدثت فيها انقلابات عسكرية، وانعكس ذلك بشكل جلي من خلال تعدد الزيارات المتبادلة، وتوقيع اتفاقيات تعاون بعضها يهم تصدير السلاح.
ومن ضمن أحدث الزيارات، تلك التي قادت وفدًا تركيًّا رفيعًا يضم وزراء الخارجية، والدفاع، والطاقة، بالإضافة إلى رئيسي جهاز الاستخبارات، ومؤسسة الصناعات الدفاعية التابعة للرئاسة، ومساعد وزير التجارة، إلى نيامي.
وقد وقَّع الطرفان، التركي والنيجري، بالمناسبة “إعلان نيات حول التعاون في مجال النفط والغاز الطبيعي”، يقضي بـ”دعم وتشجيع الشركات التركية في تطوير حقول النفط والغاز الطبيعي في النيجر”(19).
وقبل ذلك، زار نهاية يونيو/حزيران 2024، قائد القوات البرية المالي، هارونا ساماكي، تركيا، بدعوة رسمية من نظيره، الجنرال سلجوق بيرقدار أوغلو(20)، كما استقبل وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، نظيره المالي، العقيد ساديو كامارا، بأنقرة، وبحث الطرفان تعزيز التعاون في مجال الصناعات الدفاعية(21).
وفي مؤشر على تعزيز العلاقات الثنائية التركية-المالية، حصلت باماكو، في ديسمبر/كانون الأول 2022، على “طائرات مسيرة من طراز بيرقدار TB2 تركية الصنع”. وفي أبريل/نيسان 2024، سلَّم رئيس بوركينا فاسو الانتقالي، النقيب إبراهيم تراوري -الذي سبق أن كرَّم خلوق بيرقدار، مدير عام شركة بايكار التركية لصناعة الطائرات المسيرة، بوسام الدولة وهو أرفع وسام في البلاد- وزارة دفاع بلاده، عددًا من طائرات بيرقدار، اقتناها من تركيا(22).
وقد زار عدد من المسؤولين في نظام تراوري تركيا، ووقَّعوا مع نظرائهم الأتراك اتفاقيات تعاون في مجالات متعددة، وذات الخطوة اتخذتها النيجر، التي تشير بعض التقارير إلى حصولها على مسيرات تركية، في مايو/أيار 2022، حالها حال عدة دول أخرى بالمنطقة(23).
وعلى غرار عدد من الدول المتنافسة على إفريقيا، تسعى تركيا إلى توطيد العلاقات الأمنية والعسكرية مع الدول الإفريقية، من أجل تعزيز نفوذها، فقد وقَّعت اتفاقيات مع أكثر من خمس وعشرين دولة بالقارة في قطاعي الدفاع والأمن، ومن ضمن تلك الدول السنغال، ومالي، ونيجيريا، كما أجرت تدريبات أمنية في أكثر من عشرة بلدان بينها غامبيا(24).
ويعكس هذا البعد اهتمام تركيا بمنطقة الساحل وغرب إفريقيا، وسعيها للتنافس على الحضور في ظل تراجع الحضور العسكري الغربي. ومع ذلك، فإن أنقرة لها اهتمام شمولي بمختلف بلدان القارة، والبعد العسكري حاضر في ذلك بقوة؛ ذلك أن لديها قاعدتين عسكريتين، أولاهما في الصومال وبها نحو ألفي عسكري، وثانيتهما في ليبيا ويوجد بها عشرات العسكريين إضافة لبعض المسيرات والعربات المدرعة.
ويتوقع أن يتعاظم دور القاعدة العسكرية التركية بليبيا في الفترة المقبلة، بالنظر إلى حدود ليبيا مع النيجر، التي تدخل في نطاق اهتمام أنقرة منذ عهد الرئيس المدني الأسبق، محمدو إيسوفو، ومن بعده محمد بازوم، وهي تحافظ الآن على ذات الاهتمام في عهد الرئيس الانتقالي، الجنرال عبد الرحمن تياني.
وفي هذا السياق، فقد زار رئيس وزراء النيجر، علي الأمين زين، تركيا، في فبراير/شباط 2024، تلبية لدعوة من الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وتحدثت وسائل إعلام نيجرية بالتزامن مع الزيارة عن سعي أنقرة إلى إقامة قاعدة عسكرية في أغاديس شمالي النيجر على تماس مع ليبيا، وتشاد، والجزائر(25).
وبالإضافة إلى موقعها الإستراتيجي، تكتسي أغاديس بُعدًا آخر مهمًّا بالنسبة لتركيا؛ حيث توجد لدى الولايات المتحدة الأميركية قاعدة عسكرية بها، هي القاعدة الجوية “201” التي كلف بناؤها 110 ملايين دولار(26)، لكنها تستعد لمغادرتها، ضمن إطار انسحابها العسكري الشامل من النيجر، المرتقب أن يكتمل في منتصف سبتمبر/أيلول 2024.
الصين وسلاح تصدير الأسلحة
توجد لدى الصين قاعدة عسكرية واحدة في القارة الإفريقية، أقامتها في جيبوتي عام 2017، ضمن سباق دولي محموم على تعزيز النفوذ في هذا البلد ذي المساحة الصغيرة، والعدد السكاني القليل، لكن له موقعًا إستراتيجيًّا فريدًا، ويتحكم بحركة الملاحة الدولية، عبر مضيق باب المندب وخليج عدن(27).
وبفعل موقعها الإستراتيجي، باتت جيبوتي تستضيف ست قواعد عسكرية، لكل من الصين، وفرنسا، والولايات المتحدة الأميركية، واليابان، وإسبانيا، وإيطاليا، وذلك من أجل حماية المصالح الإستراتيجية لهذه البلدان في المنطقة، وتوسيع نفوذها(28).
وكما تنافس الصين في منطقة القرن الإفريقي عبر البوابة العسكرية، من خلال إقامة قاعدة عسكرية بجيبوتي، فإنها تنافس بمنطقة الساحل كذلك عبر بيع السلاح، وتدريب الجنود. وتشير بعض التقارير إلى أن بكين التي تعتبر ثاني أكبر منتج للأسلحة ورابع أكبر مصدِّر لها عالميًّا، ارتفعت صادرات أسلحتها بشكل كبير إلى دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى(29).
وتتدفق الأسلحة الصينية نحو عدة دول بمنطقة الساحل وغرب إفريقيا، كتشاد ونيجيريا، كما فتحت إحدى شركات بكين مكتب مبيعات لتوريد الأسلحة الصغيرة والمدفعية والمركبات المدرعة، في السنغال(30).
ويبدو أن الصين، استغلت بشكل كبير الفراغ الذي خلَّفه انشغال روسيا بالحرب على أوكرانيا؛ ما أسهم في تراجع كبير لصادرات موسكو من الأسلحة إلى إفريقيا بنسبة ناهزت 44%، فعززت الصين بذلك حضورها، وأصبحت مورِّدًا رئيسيًّا لإحدى وعشرين دولة إفريقية(31).
ويشير تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام بشأن أكبر مصدِّري الأسلحة خلال عام 2022، إلى حلول الصين في المرتبة الرابعة بنسبة 5.2%، بعد الولايات المتحدة وروسيا بنسبة 31%، وفرنسا بنسبة 11%(32).
وتعكس هذه الأرقام أن الصين لم تكن تركز كثيرًا على تصدير السلاح للقارة الإفريقية، باعتباره أحد المنافذ التي يمكنها من خلال تعزيز الحضور، ولكنها أدركت أنه عبر هذه البوابة بالذات تتسابق القوى إلى الانتشار والتوسع، وعبرها أيضًا يمكن تحقيق الكثير من الأهداف الأخرى. وقد زاد من اهتمام الصين وغيرها من الدول المتنافسة على المنطقة، مساعي بعض دول الساحل إلى البحث عن حلفاء جدد عوضًا عن الغربيين، الذين يعتبرهم الحكام العسكريون الجدد جزءًا من مشكل تدهور الوضعين، الأمني والاقتصادي، وليسوا جزءًا من الحل.
خاتمة
شكَّل البعد العسكري خلال السنوات الأخيرة مضمار تنافس رئيسيًّا بين القوى الكبرى على منطقة الساحل وغرب إفريقيا، وأحد المداخل المهمة نحو تعزيز النفوذ فيها، والاستفادة من الموارد التي تزخر بها.
إن موارد الذهب، والقطن، والزنك، والفوسفات الموجودة في بوركينا فاسو، واليورانيوم، والذهب، والغاز والنفط -المرتقب بدء إنتاجهما- في النيجر، والذهب، والقطن، والأسمدة، والحديد في مالي، يشكِّل البعد العسكري المدخل الأساسي للهيمنة على رخص استغلالها.
ولا يقتصر الأمر على هذه الدول فحسب، وإنما يشمل بلدانًا أخرى عديدة، بينها ساحل العاج التي يوجد بها النفط والغاز، والألماس، والحديد، والنحاس، والبوكسيت، وتشاد كذلك التي يعد البترول الخام واحدًا من صادراتها الرئيسية نحو فرنسا، والولايات المتحدة الأميركية، والصين، كشركاء تجاريين رئيسيين لها.
وقد ظلت فرنسا بحكم الماضي الاستعماري مهيمنة كشريك أجنبي شبه وحيد، أو رئيسي على الأقل لكل هذه الدول، بل ولكل البلدان التي كانت تستعمرها، وما زال مستوى كبير من تلك الهيمنة قائمًا، رغم التراجع المشهود في بعض دول نفوذها التقليدي.
لقد عمدت فرنسا من أجل الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية في بلدان الساحل وغرب إفريقيا، إلى نشر آلاف الجنود، وأقامت عدة قواعد عسكرية، لحماية قادة الدول المتحالفة معها من الانقلابات العسكرية، وحين ظهر الإشكال الأمني وتنامى نشاط الجماعات المسلحة، أضحت مواجهة هذا التحدي جزءًا من أدوار القوات الفرنسية، بل إن باريس نشرت قوات خاصة لمجابهة الجماعات المسلحة.
ومع مرور الوقت وتوسع رقعة الخطر الأمني الذي بات يهدد عددًا من بلدان المنطقة، دخلت عبر البوابة العسكرية عدة دول أخرى، فأقامت قواعد، ونشرت قوات عسكرية، وبالمقابل استفاد العديد من شركات هذه الدول من رخص تنقيب المناجم واستغلالها، ومن صفقات تجارية واقتصادية كبيرة.
إن حماية المصالح وتعزيز التموقع الجيوستراتيجي، هو ما يفسر تنافس القوى الدولية على الدخول عبر المجال العسكري إلى منطقة الساحل، وهناك إرهاصات بشأن توسع خارطة التنافس والانتشار نحو الدول المطلة على خليج غينيا الذي يعاني من انتشار القرصنة، ويشكِّل مصدرًا حيويًّا لحصول بعض هذه القوى على جزء مهم من احتياجاتها من النفط والغاز.