الديمقراطية بناء تراكمي يبدأ بالتأسيس ولاينتهي بالتدشين، يحتاج إلى التحسين والتطوير باستمرار استجابة لمتطلبات العصر ودرءا للمفاسد المحتملة، فكما يقول بعضهم : “التسيير الحيطة”.فمنذ انطلاقه في مطلع تسعينيات القرن الماضي، تحت ضغط خارجي وفي إطار تحول جيوسياسي جذري على مستوى المعمورة، عرف “المسلسل الديمقراطي” الموريتاني تذبذبا كبيرا، شكلت المحطات الانتخابية المتلاحقة أهم مؤشراته.
ففي البداية، اعتبرت بعض الأوساط السياسية الحاكمة، بناء على ذكائها السياسي المفترض، أن الديمقراطية تقتصر على تنظيم انتخابات شكلية إذعانا للضغوط الأجنبية وشرعنة لممارسات إدارية ظلت، ردحا من الزمن، تفتقر إلى الحد المعياري الأدنى. فتعلم الناخب الموريتاني “لامبدا” الديمقراطية في مدرسة “جمهورية” أبعد ما تكون من قيم الوعي الوطني وحرية الرأي والشفافية والأمانة الفكرية والأخلاقية.
ورغم قبضة نظام هجين (لكي نكون إيجابيين!)، واصلت بعض القوى الوطنية نضالاتها عملا على إنجاح التجربة الديمقراطية وذلك ضمانا لمصالح البلاد والعباد، في عالم متسارع التحولات. لم يفلح الترقيع الإجرائي الذي لجأ إليه النظام “الجمهوري” مرارا وتكرارا، في كبح جماح مطالبة النخب الموريتانية بنظام ديمقراطي ذي مصداقية ؛ وسرعان ما تعرض ذلك النظام لهزات عنيفة متتالية، نجحت آخرها، سنة 2005، في نسف القاطرة القديمة استجابة لضغط جارف وأملا في الإبقاء على المركبات متلاحمة وفوق السكة، ريثما تصل قاطرة جديدة.
لقد كان لهذا الانقلاب الأبيض دور في تحريك المياه الراكدة من المنظور الديمقراطي، إلا أن بعض قادته كانوا ضالعين في التسيير العشوائي للبلاد، إلى حد يصعب معه إقناع المواطن الموريتاني المتوسط بحسن نياتهم تجاه الديمقراطية بشكل خاص والحكم الرشيد بشكل أعم.
وعلى الرغم من التعلثم المجازي الكبير (البطاقة البيضاء، المستقلون…)، تحسنت ظروف الاقتراعات الانتخابية إلى حد أجبرت فيه القوى الديمقراطية، لأول مرة، المرشح “الرسمي”، على خوض شوط ثان لحسم الاستحقاقات الرئاسية سنة 2007، في أجواء شديدة التنافس، لعب فيها المال السياسي دور المنقذ والمخلص. لم تعمر أول رئاسة ديمقراطية للبلاد طويلا، نظرا لارتجالية الترشيح وحجم المسكوت عنه في صفقته، فما هي إلا سنة حتى أعادت “الحركة التصحيحية” (حسب عبارة أحد أبرز سياسيي البلد) العداد إلى الصفر من منظور الحكامة، في ظروف معقدة داخليا وخارجيا ؛ الشيء الذي تسبب في أخطر انتهاك للسيادة السياسية للبلاد، حيث عجزت القوى الوطنية المتنازعة وقتها عن تنظيم حوار داخلي جاد، فلجأت إلى تحكيم خارجي هدرا لسيادة البلد وكرامة أهله ومصالحهم المعنوية.
إلا أنه كما يقول المثل : “رب ضارة نافعة”، فقد وصلت مستويات الضغوط الداخلية والخارجية، إلى حد لم يبق يومها من خيار أمام النظام سوى الشروع الفوري في استثمار كل الطاقات المتاحة على الأرض ولصالح السكان، التماسا لشرعية مهزوزة على أكثر من صعيد.
عندما احتدم النقاش حول “المأمورية الثالثة” ورغم شطط الكثيرين بهذا الخصوص، كان هناك رأي داخل السلطة ينادي بتجنيب البلاد عواقب الإطراء غير الدستوري وغير الآمن سياسيا، وانتهاز فرصة التناوب على السلطة الموالي لإيصال موريتانيا إلى العتبة الديمقراطية العلوية، من خلال تنظيم انتخابات رئاسية حرة ونزيهة طبقا لأرقى المعايير المتعارف عليها دوليا، علما بأن دولا في شبه-المنطقة، شمالا وجنوبا، قد لحقت قبلنا بركب الشعوب الراشدة من منظور الحكامة الانتخابية، ويجب ألا نقبل لبلدنا إلا التصنيف الأكثر تقدما إقليميا ودوليا. رغم التحسن المضطرد لأداء البلد الانتخابي عموما، فقد شكلت مقاطعة بعض القوى المعارضة الوازنة لاستحقاقات انتخابية وطنية مبررا كافيا لدى البعض للتشكيك في نزاهتها.
لقد جرت انتخابات 2019 في ظروف مرضية، الشيء الذي لم يمنع بعض الفاعلين السياسيين من التشكيك في شفافيتها، رغم مشاركة الجميع وضعف الأدلة ؛ إلا أنه لو تم الانصات، خلال تحضير هذه الانتخابات، لدعاة الإصلاح والتطوير، لما جرؤ أي فاعل سياسي على ذلك التشكيك، وإن فعل لكان ذلك على حساب مصداقيته ومستقبله الانتخابي.عندما قرأت نص الرسالة التي بعث بها رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني إلى قادة الأحزاب السياسية الوطنية، قبيل انطلاق الحملة الانتخابية الحالية، والتي دعاهم فيها، من بين أمور أخرى، إلى “صيانة الهدوء السياسي”، وإلى الاختلاف “باحترام” وإلى التعبير “عن تباين آرائنا برقي”، وإلى النقاش “بقوة لكن في إطار من المسؤولية الأخلاقية والالتزام الأدبي”، وعندما تأكدت من انخراط كل القوى الحزبية الوطنية في الحملة الانتخابية الجارية، وعندما قرأت البيان الذي أصدره القائمون على “الرئة الاقتصادية” للبلاد، والذي يذكرون فيه بأن إدارة الشركة الوطنية للصناعة والمناجم (حوالي 15% من الناتج المحلي الخام وحوالي 5000 عامل)، تقف على مسافة واحدة من جميع المتنافسين خلال الاستحقاقات الحالية، وعندما تم تقسيم الدعم المالي العمومي بشكل عادل بين كل الأحزاب حفاظا على تساوي الفرص بين الجميع، وعندما سمعت بعض التعقيبات الرسمية على ارتكاسات خطاب “المأمورية الثالثة”، فهمت أن الانتخابات الوشيكة قد تكرس -إذا عمل كل الفاعلين السياسيين من أجل ذلك كما دعاهم إلى ذلك رئيس الجمهورية وتغليبا للمصلحة العامة لهذا الوطن- ولوج موريتانيا العتبة العلوية في مجال تنظيم الانتخابات التعددية، طبقا لحاجة البلاد إلى الديمقراطية الحقة كصمام أمان لاستقرارها وتطورها وتحقيقا لحلم جل النخب الوطنية وإبعادا للوطن كليا عن بيئة المخاطر التي تتهدد أكثر من دولة في الساحل والصحراء، ولحاقا ببعض شعوب شبه-المنطقة…