آراء

وتيتَّم الميكروفون!

بقلم: الإعلامي/ محفوظ ولد السالك

صوت جهوري عذب لا يمل سماعه، ولغة جزلة “عالية” وفخمة، وإلقاء جميل يأسرك حتى النهاية مهما كان طول المادة أو طبيعة الموضوع، تلك بعض من خصائص عبد الصادق بن عيسى، الصحفي الأمة الذي رحل تاركا غصة في الحلق، وفراغا في الإذاعة، وتيتما للميكروفون.
ليس سهلا أن تشهد ميلاد إذاعة بحجم ومكانة إذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية “ميدي1″، ومعا تترافقان لأربعة عقود، وتتماهيان إلى أبعد الحدود، فبك تعرف الإذاعة، وبالإذاعة تعرف أنت.
كان الراحل عبد الصادق وقد أمضى أكثر من نصف عمره بالإذاعة، مدرسة متعددة التخصصات. في نشراته وبرامجه دروس لغوية قل أن تجدها عند غيره من صحفيي اليوم، ففيها تجد النحو والتراكيب، وتجد الصرف والبلاغة، فيها تجد المحسنات اللفظية البديعية والمعنوية…
في مدرسة عبد الصادق تجد فن الإلقاء، فلا يعوزه مثلا إعراب كلمة فيضطر للوقوف على ما لا يجب الوقوف عليه، يتفاعل صوتيا مع ما يقرأ من خلال إلقائه، فيعطي للنص بعدا تكامليا، يسهل الفهم والاستيعاب.
أوتي عبد الصادق ملكوت السرد، فكم آذانا شنف وهو يحكي “قصص بوليسية”، أو “هاربون”، و”مهمشون”، أو يقطف من ثمار ثقافته الواسعة “لحظات من التاريخ”، أو يسرد عن “وجوه من الظل”، وهو آخر برنامج قدمه في حياته الإذاعية الممتدة.
تتسع خارطة مستمعيه عبر امتداد الوطن العربي، فكم آنس في الفيافي والأدغال، وكم استأنس به أهل السفر والحضر.
كان متواضعا لأبعد الحدود، لا تفارق الابتسامة محياه، يوزعها بالقسط بين الصحفيين وغيرهم، يخاطب الجميع بالزملاء، رغم فارق السن والتجربة، لكنه تواضع العارفين.
كوَّن عبد الصادق عن بعد وعن قرب أجيالا عديدة، وترك مكتبة صوتية، يركن إليها الكثيرون في لحظات البحث عن سماع منتوج صقيل اللغة، جزل العبارة، عذب الصوت. و”المنهل العذب كثير الزحام”.
كان عبد الصادق يدرك معنى أن تكتب للأذن، ويستحضر دائما أن “الأذن تعشق قبل العين أحيانا”، وكثيرون هم عشاقه ومحبوه، من مختلف الأجيال، والأجناس والبلدان.
اليوم يغادر سي عبد الصادق على حين غرة، دون فرصة للوداع الأخير، صارع المرض دون استسلام، ظل يواجهه بابتسامة معهودة، وصبر جميل، إلى أن رحل بهدوء.
قبل أزيد من ثلاثة أشهر حل ضيفا على “نقاش حصاد ميدي1” بمناسبة اليوم العالمي للإذاعة، تحدث عن تجربته الثرية، وعن مسار الإذاعة الطويل، ولوح بيده مبتسما للزملاء في غرفة الإخراج، ولم نكن ندرك أنه يودعنا، فقد كان وداعه كتحيته، مسفرا ضاحكا مستبشرا…
لروحه الطيبة شآبيب الرحمات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى