آراء

شكرا سيدي الرئيس.. ومتى ينتهي طريق النباغية بولنوار؟

بقلم: المختار بابتاح

لا أدري كيف أوصل لفخامتكم هذه الرسالة؟ ومن ذا يتحمل أمانة توصيلها لراحتكم، هل أضعها عند بوابة القصر في ظرف محكم كما الرسائل الإدارية؟ ام أبعثها عبر رقم مدير الديوان الخاص ؟ أم أرفعها عبر عمدة بلدية النباغيه بصفته رئيس السلطة المحلية.؟

سيدي الرئيس
لا أخال هذه الرسالة تصل إليكم أبدا لأسباب عدة منها غيابي عن مراكز القرار وموائد أصحاب النفوذ فما ظنكم ـ سيدي ـ برسالة مكتوبة من بدوي مجهول صهرته الطبيعة العبوسة بشموسها الحارقة وسوافيها اللاسعة وريحها الصّرْصرْ، فكيف له بصياغة أسطر مجاملة رزينة رومانسية تليق بمقامكم، و ثانيا سيقول السفهاء من خَدَم القصر وحَشَمِه أن حروفي متنافرة، ركيكة المعنى والمبنى، مكتوبة بأنامل خشنة بعيدة عن وحي شلالات الأبراج ورياضها الغناء.
مهما يكن سأكتب الرسالة إلى فخامتكم علها تصادف يدا أمينة فتوصلها لراحتكم لتفتحوها وحدكم..
إنها رسالة من مواطن بدوي قذفتْ به الأقدار إلى النور ذات أيام جفاف ماحق في كوخ خشبي مغطى بأعواد الثمام بقرية بعيدة تسمى “بولنوار” تابعة لبلدية النباغيه، هل سمعتم عن تلك القرية المنسية وراء الكثبان ؟ كلاَّ .. ألم تقرؤوا لشاعر ملأ الدنيا وشغل الناس اسمه أحمدو ولد عبد القادر؟ بلى .. إنها ملاعب صباه، في هوائها الطلق كان يتنفس نسيمها الخلاب ويحتمي بظلال شجرها الوارف الظليل كلما أظله العصر الجديد “مخالبًا غجْرى وعولمةً لها أنيابُ”.
ولدتُ وعشتُ هناك في القرية المتسللة بين الكثبان الفضية المختفية بين غابات الطلح المغطى بدود “المرّة” ، تلكم القرية المنسية رغم تاريخ علمي ونضالي كبير خلال العقود الماضية .
عشتُ هنالك بعيدا عن أنوار المدن الزاهية وطرقها المعبدة، وعشتُ مع أترابي شظف العيش وطفولة قابضة باكفها المتَصَلِبة على الجمر يمتزج فيها الفقر المدقع مع الثقة بمستقبل أفضل في تحدٍ دائم لصروف النوى وما أكثرها.
كنت ابن مدرستها التي تتحدى بحجراتها المتآكلة تلك العزلة المطبقة، وكان حلمي وأنا ذلك الطفل البريء أن أرى كل مساء أنوار سيارات “السالك” و”دب الله” و”ولد هَمّتْ” في طريقها إلى قرية “برينه” العريقة، أرى الأنوار كل مساء وهي تتسلق التلال الشمالية الغربية تتراقص على وقع ألْسنة الرمال المبتلعة لرباعيات الدفع.
وتتقدم الأيام بي ويقدر الله أن أعيش مع البدو الرُحل المطاردين دهرا لحركة السحب في هذه المنطقة المعروفة بمنطقة “العُقل” لقد “رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون” حلنا فيها و أنخنا مطايانا عند كل أرض معشوشبة فيها، فكانت لنا أيام في “بير البركه” و”الطيب” و”اتوامه” و”العفونية” و”لعكيله” و”بوبكر” و”برينه” و”إنياركه” نشد رحالنا ثم نحطها في هذه المنطقة التي لا أدري هل سمعتم عنها قبل خطاب عمدة النباغية.
سيدي الرئيس..
“العُقلْ” اسم وعلم يعرفه كل من تصفح دواوين الشعر الموريتاني، “العُقْل” تلكم الأم القاسية التي تعلق بها أبناؤها البررة وخاصة كبار الشعراء الذين احتضنوها واحتضنتهم ذات عقود وقرون خوالي، أمثال محمد ولد محمدي العلوي ومحمد ولد ابنو الشقروي والذيب الحسني.
“العُقل” ـ على قساوتها وشيخوختها ووجها المتجَعِد سباخا ورملا ـ إلا أنها ألهمت أصحاب القريض مرات كلما ولوا وجوههم شطرها وقابلو معاهدها الدُرَٓس فوقفوا بها واستوقفوها واستنطقوا دمنها البوالي وتذكروا في “رقابها ولوعًا”، وغنى برمرابعها ومراتعها من لا يغني مغردا.
فيها تسامر الطلاب في مساجلاتهم الشعرية واللهجية، بها شرح العلماء أمهات الكتب، وفي منكبها الشرقي انطقلت جحافل المناضلين الكادحين منادين بالحرية والتحرر فكانوا سباقين في الثورة الفكرية يوم كانت البلاد تشهد تفاوتا بين أبناء البشر.
كان حلما لأبناء تلك الحضارة أن تفك عنها العزلة، وكان حلمي وأنا الذي ذرَعْتُها شرقا وغربا ـ طفلا حافي القدمين فمراهقا فشابا فأشيبا ـ أن أرى ذلك الطريق الأسود الحالك الممتد على مد البصر وقد قُطِع بخطوط بيضاء ناصعة.
اليوم سيدي الرئيس..
تحقق نصف الحلم، رأيتُ بأم عيني ذلك الطريق يشق الرمال الوعرة في الجزء الغربي من منطقة “العقْلْ” إلى قرية “النباغية” قرية العلامة اباه ولد عبد الله شيخ المحظرة الدولية المتنوعة ثقافة وعلما ولغة.

فكم هو مفرح أن تفك العزلة عن بعض قرى “العُقلْ” التي عانت من عزلة حقيقية، وكم أثلج صدورنا ذلك الخبر المنشور على كبريات الصحف “انتهاء الأشغال من الطريق الرابط بين طريق الأمل والنباغية وتقدم الأعمال في محور النباغيه ـ بير البركه”.
سيدي الرئيس.. لدي حلم..
بعد تحقيق نصف الحلم ما زلت احلم أن أرى الطريق يمتد ويمتد في باقي المنطقة إلى الركن الشرقي لمنطقة العقل وبالذات قرية بولنوار، مرورا بسدرة و بتنبنيوك وبوسدره وبير السعادة والعفونية.. الخ.
حلمي أن تتدخلوا شخصيا لفك العزلة عن هذه المنطقة الثقافية العريقة الوعرة جدا، وطلبي لعمدة بلدية النباغية أن يتحرك على جناح السرعة لإنصاف كل ساكنة البلدية وفك العزلة عن منطقة العقل، حتى يكتشف الزوار والأركولوجيون كنوزا ثقافية طمرتها الرمال وما زال أهلها ينتظرون التدخل من ذي مروءة..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى