آراء

العروبة من منظور فلسفي (١) الانتماء أو الحرّية؟

أ.د السيد ولد أباه / مفكر موريتاني

عندما كتب المفكّر المغربيّ عبد الله العروي كتابه الشهيرالأيديولوجيا العربية المعاصرةفي منتصف الستينيات، كان السؤال الذي شغلههو كيف يمكن أن يستوعب الفكر الحداثي العربي الإشكالات التنويرية الإنسانية ضمن منظور الهوية الإنتمائية الذي ساد في تلك الحقبة،وأصبح شرط كلّ طموحات النهوض والتقدّم.

ما كان يقصده العروي دون أن يصرّح به بوضوح هو التنبيه إلى الانفصام العميق الذي مسّ الشخصية العربية ما بين مشروع إيديولوجيكان في أساسه موجّهًا باعتبارات الخصوصية والذاتية القومية، وطموح تحديثي لا يمكن أن يتحقّق إلا في إطار المرجعية الإنسانية الكونية.

لقد بدأ الفكر العربي الحديث منذ نهاية القرن التاسع عشر مؤطرًا بإشكاليّتي النهضة والإصلاح، وهما إشكاليتان مختلفتان من حيثالمضامين النظرية والقيمية، تحيل إحداهما إلى الوعي التاريخي وتحيل الثانية إلى المنظور النقدي.

في المسار الغربي، تمايزت الإشكاليتان فكريًا وتاريخيًا، فتحدّدت مقولة النهضة بأفق الكونيّة الإنسانية، واتّسمت مقولة الإصلاح بالثورةالتأويلية للنصّ الديني، وكان عصر التنوير والحداثة نتاج هذه السيرورة العميقة المتصلة.

لم يكن الطموح القومي قويًا ولا متجذّرًا في الأدبيات النهضوية والإصلاحية العربية الأولى، فنظرت إلى العروبة من حيث هي ركيزة حضاريةوقيمية للمجتمعات العربية دون أن يتبلور هذا التوجه في صياغات أيديولوجية رصينة ومتناسقة.

ومع أنّ مفكري اللحظة القومية العربية (من ساطع الحصري وزكي الأرسوزي إلى ميشل عفلق وقسطنطين فريق) تبنّوا بوضوح المفاهيموالتصوّرات الحداثية، وحافظوا على التوجّهات النهضوية الإصلاحية، إلا أنهم اعتبروا أنّ مقوّمات الهوية وبناء الأمة الواحدة لها الأولوية علىمحددات وخيارات البناء السياسي والمؤسّسي.

لقد واجه المفكّرون القوميّون معضلةً فكريةً أساسيةً تمثّلت في أنّ حركية التنوير والتحديث في أوروبا قامت في مجتمعات تشكّلت فيها دولقوميّة مركزيّة (فرنسا وبريطانيا)، في حين فشلت هذه الحركيّة في ألمانيا غير الموحّدة رغم إسهامها الفلسفيّ الثريّ في الإصلاح الدينيوفكر التنوير.

لقد أدركوا أنّ النزعة القوميّة كانت في السياق الأوروبي نتاج عملية التصادم مع حداثة ليبرالية إجرائية وضعت بين قوسين المعايير الإنتمائيةالخصوصية، فنشأ في البداية الشعور بالتوجّس من الديمقراطية الليبرالية من حيث كونها تكرّس الهويات القطرية الضيّقة وهي بالضرورةعقيمة وفاسدة في هذا الحيّز المحدود لكونها تحتاج عضويًا إلى إطار قومي سابق عليها.

لقد أنتجت الحداثة السياسية كما هو معروف مفهومَيّ التمثيل والسيادة، وهما مفهومان شديدا الترابط، باعتبار أنّ الدولة من حيث هيتجسيد للهوية الجماعية المشتركة تتمتع بالسيادة المطلقة، إلا أنها لم تمنح أيّ اهتمام لطبيعة المجتمع السياسي المنظّم مكتفيةً بالنظر إليهكنتاج حالة تعاقدية توافقية تأخذ شكلًا قانونيًا مدنيًا مخترعًا.

ومن هنا حدّة المشكل الذي طرح على المشروع القومي العربي، الذي وإن آمن بمعايير الحداثة السياسية، إلا أنه اعتبر أنها لا تلائممجتمعات تفتقد إلى البناء السياسي المنظّم الذي هو بالضرورة شرط المرجعية القانونيّة المدنيّة للدولة الديمقراطية الليبرالية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى