غالبا ما تختلط المشاعر الحالمة بالحقائق الواقعية لدى السياسيين الاندفاعيين في لحظات انتشائهم بتحقيق بعض المكاسب التي كانوا يرونها حلما بعيد المنال، فيبصرون بـ”عيون حماسهم” الانهيار الوشيك انتصارا مجلجلا، ويرون بـ”أبصار سَكرتهم” التزوير الفاضح بالضغط على المستضعفين وإرغامهم على التصويت لمرشحين معينين مقابل مبالغ مالية زهيدة اختيارا حقيقيا لحزب قُلَّبٍ يكفي في الصدود عنه وعن من يمثله مشاهدة الطُرق التي جَرَّ بها الآدميين نحو حظائر الانتخاب القسري.
فعلى “أطلال” عرفات المغتصبة بقوة التهجير والتزوير وقف معالي الوزير الأديب والفقيه السياسي الصاعد القاضي الداه ولد أعمر طالب منشدا أشعارا رومانسية محتفيا بافتكاك الحزب الرضيع “الإنصاف” لمقاطعة عرفات من المعارضة بعد عشرين عاما من استعصائها على جحافل الموالاة أيام كانت عرفات مقاطعة طبيعية يصوت فيها سكانها فقط، ويتنافسون في اختيار من يتولى أمر مقاطعتهم تنافسا طبيعيا وقابلا لسنة التغيير حسب البرامج والمرشحين.
وفي الوقت الذي كان الوزير الداه – وهو عاشق للشعر- يتمثل بزهو وفخر ببيت من نسيب معلقة زُهير بن أبي سُلمى، كان رجال من أحزاب الأغلبية الحاكمة في نواكشوط وفي مدن الداخل ينشد لسان حالهم أبياتا من المعلقة نفسها عن خطر “بعث” الحروب، ويناشدون فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بـ”تدارك عبس وذبيان” قبل أن يدقوا بينهم “عطر منشم”، فتنتج هذه الانتخابات للبلاد المطلة على بركان قلاقل “غلمان أشأم كأحمر عاد”.
كان من المنتظر أن تحافظ مخرجات الانتخابات البرلمانية والبلدية الأولى المنظَّمة في عهد الرئيس غزواني على المكتسبات الديمقراطية التي ضحى الموريتانيون من أجلها، وأن تعزز روح التوافق البنَّاء، وترسخ قيم المشاركة السياسية الفعالة، وأن تبتعد عن جشع الأنانية الهدامة، وأن تحقق صدقا معنى “الإنصاف” بابتعاد القائمين عليها عن منطق الإقصاء والتأزيم المجتمعي.
وكان من المفترض أيضا أن ينأى مناصرو الرئيس فيها بالأخص عن التبشير بثقافة التيئيس السياسي والتبئيس القسري لدى أحزاب الأغلبية والمعارضة معا، وأن ينسجموا مع شعار “رئيس الإجماع الوطني”، وتأكيده هو في حملة “تعهداته” على عدم ترك أحد “على قارعة الطريق”، وفتحه لباب القصر الرئاسي في أول مأموريته لأغلب السياسيين الذين أسمعهم كلاما حسنا، وأحسن الاستماع إليهم فخرجوا مغتبطين، قبل أن يغزو التذمر الصامت والناطق أطراف الراضين من فخامته بغنيمة الكلام الطيب.
إن أخطر ما تصاب به النخب السياسية هو تصديق الأوهام المبنية على الأماني الكاذبة مثل توهم السيد مختار ولد اجاي والذين تآمروا معه في مسرحية انتخابات “الاكتساح الخادع” أنه يوجد في الكرة الأرضية الآن من يصدق مثل هذه النتائج المقززة التي كشفت هي نفسها من عجز النظام الحالي ورداءة أدائه الإداري وتفكك بُناه السياسية ما لم تكشفه أية واقعة سياسية من قبل.
كما كشفت الانتخابات وملابساتها البائسة من بداية تحضيراتها الباهتة وحتى توارد النتائج المتحكم فيها بالتقسيط والتقطير حقيقة الشيخوخة المبكرة التي أصيب بها النظام الحالي، وما شيخوخة الأنظمة إلا انسداد آفاقها السياسية والاجتماعية وهيمنة زمرة من النافذين فيها و”الشاطرين” على المشهد بطرق ظاهرها القوة، وهي في حقيقتها ضعف مغلف بالمكر والخداع والتلويح بعصا العقوبات واستخدام وهم هيبة الدولة التي أضحت أحزاب أغلبيتها فجأة تهدد بالثورة والتأزيم.
وصار عُمد “الأعماق” فيها مستعدين للموت في سبيل حماية محضر انتخابي من طائلة التزوير الذي أزكم أنوف الجميع باتفاق الأحزاب السياسية، وأولهم حزب الإنصاف المتخم بالمكاسب الوهمية، والمتشبع بما لم يعطه الشعب حقا، وبات أهل عدل بكرو وباسكنو وفصاله في أقصى الشرق وهم على مرمى حجر من مرتزقة فاغنر رائدة الفوضى في المنطقة يقولون بملء أفواههم للرئيس لن ننتخبك في الانتخابات الرئاسية القادمة.
فالشعب هنالك يعي أن الانتخابات الجارية تمهيد لاستحقاقات 2024 الرئاسية، ويتساءلون عن دور الرئيس أو غيابه على الأصح في الأزمة الجارية التي تهدد استقرار البلد وسلمه المجتمعي، وهو تساؤل في محله، فلطالما كان تزوير الانتخابات والشعور بالغبن السياسي مقدمة لأزمات سياسية عصفت ببلدان في إفريقيا وآسيا، ولم تسلم أمريكا بمؤسساتها الراسخة من تلك الهزات؛ فمعضلة الشفافية الانتخابية هي التي جعلت الأمريكيين يقتحمون مبنى الكابتول هيل عام 2021.
التساؤل عن الرئيس ولد الغزواني ودوره في تفاصيل الشأن العام في موريتانيا يتصاعد منذ تولي فخامته منصب الرئاسة لعدة أسباب موضوعية؛
أولها: أن نظام الحكم الذي يقوده نظام رئاسي بصلاحياته الواسعة المعروفة والمقتضية للحضور في القضايا الوطنية الكبرى،
ثانيها: أنه تقدم إلى الشعب بخطاب جديد لمادة “العهد” فيه حضور بارز، ومنه اشتق برنامجه الانتخابي “تعهداتي” الذي طواه النسيان رغم أن ذلك البرنامج هو ميثاق العهد الاجتماعي بينه وبين الشعب في هذه المأمورية المشرفة على الانتهاء.
ثالث الأسباب: وهو أخطرها سلبا وإيجابا هو سعة المساحة التي يتحرك فيها رجال الرئيس وأهل ثقته، مما جعل حضورهم يطغى على حضوره،
والرابع: أن الشعب حديث عهد بالرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز الذي كان حاضرا في كل التفاصيل السياسية والعامة بتقديم النفع لبعض مناصريه، وتوفير الضرر لكل معارضيه، مع سعة صدر لاستقبال الهجوم عليه، وشراسته في الرد على منتقديه بلا كلل ولا ملل.
والسبب الخامس: قدرة نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المعارض لولد الغزواني على ترسيخ صورة “الرئيس الغائب” لدى عموم الشعب كحقيقة واقعية لا تقبل النقاش بما يترتب على ذلك من وصف بالضعف واللا مبالاة.
محكية “الرئيس الغائب” والأسباب أعلاه ترجع إلى قضيتين محوريتين في طبيعة شخصية ولد الغزواني، الأولى: أنه رجل من “رجال التفويض” فإذا ما كلف أحدا بمسؤولية أعطاه كامل الصلاحيات، وهو أمر معروف عنه حتى قبل الرئاسة، وهذا خلق ناشئ عن البيئة الصوفية التي “تربى” فيها وترعرع، وهي بيئة يتنافس أهلها في القيام بالمهام الموكولة إليهم حدَّ “الفناء”.
الثانية: حبه لمحاسن الأخلاق واشتهاره بذلك، لكن مفهومه لحسن الأخلاق مفهوم ضبابي ينطلق من مركزية “كف الأذى” عند الصوفية، ولا يراعي منطق العدل وشروط العقل بمكافأة المحسن ومعاقبة المسيء، وهذا يصادم أبجديات السياسة وسنن التدافع.
الحقيقة أن ولد الغزواني بعيد من الضعف فهو تام العقل ويعرف ما يريد وكيف يصل إليه، لكن تغليبه لمبدأ التفويض كان يمكن أن يكون محمدة في بلد له مؤسسات راسخة يمكن أن تقوم بمهامها على أحسن وجه، ولديه مؤسسات رقابية وقضائية تقوم بأدوارها لكنه في حالة موريتانيا انقلب ذلك التفويض إلى مثلبة تمس رأس النظام وأساسه، وهو ما يبدو لكل المتابعين من شراسة التنافس بين أقطاب النظام الذي لم يتشكل بعد.
وتبدو كذلك في ظاهرة انتشار الفساد واستفحاله وإطلاق أيدي الفاسدين مع أمن العقوبة، وفي تعثر مشاريع البنية التحتية وغيرها من الإنجازات التي بشرت بها “تعهداتي”، وما المغاضبات الانتخابية وما ترتب عليها إلا أعراض لظاهرة غياب الرئيس الذي يبدو كمَلِكٍ دستوري في دولة إسكندنافية وليس رئيسا ذا خلفية عسكرية يحكم دولة إفريقية.
على المستوى الشخصي يمكن لنا أن نشيد بأخلاق ولد الغزواني وبمبدأ التفويض لديه، وقد وعدنا في خطاب إعلان ترشحه باستثمار ما مَنَّ الله عليه به من تربية للنهوض ببلادنا، لكن المواثيق والعهود التي بين الشعوب وحكامها لا تنفذ بالأمزجة والطبائع والرغبات بل باستشعار المسؤولية والعمل الدؤوب ومراكمة الإنجازات وتنفيذ الخطط، وتولية الأكفاء، ومعاقبة المفسدين.
والأخطر من كل هذا أن الرئيس “عمليا” يستقيل من دور دستوري رسمه له المشرع في المادة 24 حين نصبه “حكما” ضامنا للسير المنتظم للسلطات العمومية، ولا شيء أكثر تأثيرا على السير المنتظم للسلطات العمومية من فقدان المؤسسات مصداقيتها، وثقة المواطنين فيها في أعوام مسغبة، وأزمات متلاحقة إقليمية ودولية طبع العالَم فيها مع قيام الحروب وتفكك الدول.
وقد آن الأوان وطبول التأزيم السياسي تدق أن يدرك ولد الغزواني الفروق الهائلة بين إدارة دولة منهكة نالت السنون العجاف من شعبها ومسؤوليها حتى انتكست أخلاقهم، وبين العيش في كنف زاوية صوفية تقوم على الزهد والتواضع وإتقان الأعمال والمسابقة إلى الخيرات و”التجرد” من حظوظ النفس.
فنتائج هذه الانتخابات وردود الأفعال عليها من الأغلبية نفسها، والوجوم الذي خيم على المعارضة وعلى حزب الإنصاف نفسه، كل ذلك ينذر بخطر ماحق قد تؤججه في أي وقت عوامل التأزم المجتمعي، والمصاعب الاقتصادية، ورداءة التعليم، وآفات البطالة والفقر، وانتشار اليأس في الشباب الذي آثر المغامرات والمخاطر في غابات أمريكا اللاتينية على البقاء في وطنهم الطارد.
لقد أتت هذه الانتخابات ونتائجها على كل الصور الذهنية الجيدة التي يود غزواني أن ترسم عنه، وصدقها الشعب برهة من الزمن، فعليه الآن أن يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح بكبح جماح أجنحة التأزيم في نظامه، وأن لا يترك هذه الفضيحة الأخلاقية والسياسية تكون عنوانا من عناوين عهده، وأن لا يكون تفويضه سلبيا لا إيجابيات فيه.
وله أيضا أن يواصل ترسيخ خلق “الإيثار”، وينتظر تشكل معارضة جادة لا تكتفي بالكلام الطيب، ولا تتورع عن النقد الجارح الذي يزعج فخامته الودودة، وهو يعلم أنه لا شيء يوقد الثورات مثل انتشار اليأس والشعور بالغبن وانسداد مسالك المشاركة السياسية، كما يعلم من أشرف على هذه المهزلة الفاضحة دعما وتخطيطا وتنفيذا أن حزب الإنصاف لا يستحق هذه المكانة الانتخابية وإن جمع بين قوة مختار ولد اجاي، وضعف أداء لجنة الداه ولد عبد الجليل.