غريبٌ هو الزمان وخفاياه المخيفة .. وغريبة هي الدنيا عندما تكشر فجأة عن أنيابها القبيحة وتكشف عن مخالبهاالحادة على حين غفلة من الإنسان ـ المتأمل سرمدا في جمالها ـ فتحول الجنات الخضر ونسائم الصبا الهادئ وهديلالحمام وزقزقة العصافير إلى روائح دخان الهراوات وأزيز الطائرات الحربية المخيف وهدير المدافع وطلقاتها الطائشة فيكل مكان لا تفرق بين شيخ عجوز وطفل بريء ومريض يتماثل للشفاء على مرقده فزاده القصف مرضا وربما أصيب بسكتةقلبية فانتقل إلى عالم أكثر عدالة.
(هي الأمورُ كما شاهدتَها دُول ٌ .. من سرَّهُ زمنٌ ساءتْهُ أزْمانُ).
دولة السودان الخضراء وما أدراك ما هي ؟ أسمع بها وأبصر!! مصبُّ النيلين، حيث باسقات النخيل، وحيث الواحاتالفيحاء والرياض الغناء وحيث الأرض المعشوشبة بكل نبابات الدنيا..
السودان.. مَمَرُ الحجيج المغاربيين والأفارقة عبر قرون من الزمن، فكم من حاج إفريقي مر بها فأدى فريضة الحج ثم عادأدراجه وأناخ مطيته هنالك واستقر بالسودان إلى الأبد بعد أن رأى الجمال وهو الذي عانى من طبيعة الصحراء القاسيةفي افريقيا سنوات من الزمن.
السودان قِبلة المستثمرين العالميين، سواء في الاقتصاد الأخضر “الزراعة” أم ذلك الأصفر الذي يتقاتل عليه الإنسان منذالقدم “الذهب” وأنواعه.. إنها السودان محط أنظار القوى الدولية العظمى ذات الاستعمار الناعم دهرا لكل بلاد افريقيةوعربية مخضرّة نباتا ومصفرّة ذهبا، ومسودّة نفطا فيكون أملها أن تحمر بذلك الأحمر القاني..
ذلك السودان الأخضر يتحول في أسبوعين إلى فوضى عارمة، وبلاد لا يعرف فيها القاتل لماذا قَتلَ ولا المقتول لماذا قُتل، فلا تسمع من الأخبار اليومية القادمة من وراء غيوم القصف المتصاعد سوى عناوين حزينة؛ عريضة حمراء بلون الدم،كأنها كتبت بدموع البائسين:
“قتلى بالعشرات .. وجرحى بالمئات ..”
“مستشفيات تغادر الخدمة بالكامل..” ..
“نفاذ الغذاء في منطقة أم درمان” ..
“انقطاع كامل للمياه والكهرباء في أحياء عدة من العاصمة الخرطوم..”.
حزين أنا عندما أراقب بعيون صحفي عربي مهتم بمنطقة الساحل والصحراء هذه الأخبار المخيفة القادمة من هنالك .. حزين كل الحزن عندما أفتقد الأمل في زيارة بلد من البلاد العربية القليلة التي لم أزرها وإن عايشت أصدقاء طيبينوأصدقاء هنالك ما ابغي بلقائهم حُمْر النعم، وتزداد المأساة حين أفتقد أخبارهم وينقطع الاتصال بهم أياما متتالية.
أيام قليلة وتتحول جنات “الخرطوم” ونسائم “أم درمان” إلى روائح كريهة يختلط فيها دخان الحرب بشواء جثثالبشر، ومخلفات القصف في كل مكان .. أسبوعان وتتحول ضفاف النيل الأزرق إلى آليات خلفتها معارك الإخوةالمتناحرين، فيكون الترقب والهلع فالهروب القسري على خُطى الشاعر الجاهلي الشنفري: “وَفي الأَرضِ مَنأىً لِلكَريمِ عَنِالأَذى… وَفيها لِمَن خافَ القِلى مُتَعَزَّلُ“
هربوا مع جنح الليل عن الديار ومرابع الصبا التي عاشوا فيها عقودا من الزمن، هربوا يخوضون غمار البحر الأحمريناطحون عبابه، وفي الجهة الأخرى يذرعون سهول الحبشة الجرداء علهم يجدوا بها نجاشيا جديدا قد ينقذهم من موتمحقق كما أنقذ أسلافهم المؤمنين ذات هروب من بطش قريش مكة وما أصعبها من أيام، أيام كان الهروب من مكة أكثر أمناوأمانا، ولله في خلقه شؤون.. !!
اليوم واليوم فقط يدور الزمان دوراته وتتحول الحبشة وحدودها إلى خوف لا حدود لها، وتكون أم القرى وما حولها مأوىللفارين إلى ملك لا يظلم عنده أحد، من السعودية قدمت سفينة جلالة الملك “مكة” لإجلاء المرضى وذوي الاحتياجاتالخاصة وإجلاء آلاف الرعايا من مختلف سكان الكرة الأرضية..
من ميناء جدة تختلط مشاعر القوم، ويمتزج حنين المرضى الفارين من الوطن بفرح القدوم إلى ارض الحرمين الشريفينوبر الأمان ومن جدة كانت مشاعر الرعايا من كل جنسيات الدنيا تعكس الفرح برحلة البحر إلى جدة، يشيدون بما قامتحكومة المملكة من إجلاء يشكرون الملك وولي عهده على السهر على أمنهم بغض النظر عن ألوانهم وأعراقهموجنسياتهم.
لا عجب أن تكون جدة كذلك، فهي أقرب ميناء لمقام إبراهيم “ومن دخله كان آمنا” وهي مدخل البيت العتيق مأوى أفئدةالناس، لا عجب أن تكون متنفس الفارين من دخان المعركة، بمدينة جدة تنفس القوم الصعداء بعد أن تأكدوا من موتمحقق وبعد أن سامروا ليالي القصف المخيفة، وبعد أن ضربوا في الأرض شرقا وغربا، ورحلوا يبحثون عن ذلك الملك الذيالمفقد عبر الأزمنة من قبل كل خائف على حياته “ملك لا يظلم عنده أحد” فكان ذلك الملك في هذا العهد هو ملك العربيةالسعودية وولي عهده والعهدة هنا على الفارين من غبار معركة لا يعلم أحد نهايتها..
وإن شئتم سائلوا الركبان القادمين للتو إلى من السودان إلى ميناء جدة ستكون تصريحاتهم بالمختصر المفيد “شكراللمملكة العربية السعودية وشكرا لجلالة الملك وولي عهده..”
حفظ الله بلاد الحرمين الشريفين وحفظ قيادتها بهذا الموقف التاريخي النبيل الذي يتناسب مع حجمها في العالمالإسلامي، وحفظ الله كذلك بلاد السودان وأعاد لها أمنها وأمانها، أملنا أن تعود السودان كما كانت، وأن أنزورها كماتمنينا ذلك مرات.